تستطيع الصناعة التجميعية أو ما يطلق عليها العموم اسم الطّابعات الرقمية الثلاثية الأبعاد أن تصنع أشياء معقّدة بواسطة العديد من المواد الأولية، ولكنّ هذه التقنية التكنولوجية المتطورة مازالت تعاني من مشكل السرعة. إنّ عملّية دمجها للخيوط البلاستيكية الدقيقة أو تذويبها لطبقات متراصّة من المسحوق المعدني من شكله الصلب ليأخذ شكلا سائلا، تأخذ وقتا طويلا جداّ، ممّا يعني أنّ عمليّة إنتاج أيّ شكل مهما كانت بسطاته بواسطة الطابعة الثلاثية الأبعاد، يستغرق ساعات من الوقت قبل أن يتم إخراجه إلى حيّز الوجود. يمكن طباعة نفس الشيء على دفعات بعدّة طابعات في الآن نفسه وهو الأمر الذي يسرّع من الوقت المستغرق في العملية قليلا. إنّ كلّ ماتحتاجه هذه التقنية التكنولوجية هو أن ينتقل تخصّصها من انخفاض حجم تصنيعاتها إلى إنتاج متسارع وضخم، كخطوة نحو حل المشكل المتعلّق بالسرعة. وعلى ضوء ذلك، تقدّم فريق من الباحثين وعلى رأسهم الدكتور ”جوزيف ديسيمون” من جامعة ”تشابل هيل” بولاية كارولينا الشمالية، ببحث علميّ يلخّص مايجب القيام به في هذا الصدد.
عادت الفكرة بالفريق العلميّ إلى الوراء، إلى الطريقة التي بدأ بها عمل هذه الطّابعات الثلاثية الأبعاد من خلال عملية سميّت بـ”ستيريوليثوغرافيا” (stereolithography)، أي علم المجسّمات، والذي تمّ اختراعه سنة 1986. تَستخدم الستيريوليثوغرافيا ضوء الأشعة ما فوق البنفسجية من أجل معالجة مادّة البلاستيك حتّى تصبح على الشكل المطلوب، حيث يتشكّل نوع معيّن من الضوء على سطح وعاء مصنوع من مادّة البوليمر السائل، على مستوى آلة الطباعة الثلاثية الأبعاد، والذي يتحوّل من خلال العملية إلى طبقة صلبة فوق أجزاء محدّدة من هذا السطح، كما هو الحال بالنسبة للعمليّات التصنيعيّة التّكميليّة المعروفة، حيث يتم تكرار عملية صناعة الطبقات البوليمرية بوضع واحدة فوق الأخرى، حتّى يتضح الشكل النهائيّ رويدا، من خلال التخفيض من حالته السائلة شيءً فشيءً حتّى يصير مكتملا.
قلبت أبحاث الدكتور ”ديسيمون” ورفاقهم مفاهيم الستيريوليثوغرافيا رأسا عن عقب، حيث أتواْ بطابعات ثلاثية الأبعاد تعمل من خلال البدء من قعر الوعاء البوليمري بدلا من البدء من سطحه الأعلى، إذ تتم معالجة أبعاد الشكل المصنوع بشكل مستمر، بينما يتم استخراج الشكل تدريجياّ من وسط مادّته السائلية الخام.
أسفرت العملية الجديدة أن طباعة شيء محدّد بشكل مستمر هو أسرع بكثير من طباعته أبعاده طبقة بعد طبقة. يولّد نهج طباعة شكل ما من الأعلى إلى الأسفل تراكم عشرين طبقة فوق بعضها البعض خلال كلّ عشر ميلمترات، حيث تحتاج كلّ طبقة إلى عدّة ثوان حتّى تجف وتكتمل، ممّا يعني أنّ صنع مجسّم ما بطول بضع ميلمترات، قد يكلّف حوالي ساعة من الوقت أو أكثر، بينما تمكّن الطريقة الجديدة التي أطلق عليها العلماء اسم عملية ”إنتاج السائل السطحي المستمر” (The continuous liquid interface production)، من تصنيع قطعة شبيهة ببرج إيفل بطول 10 سنتيمترات في نفس الوقت، بل تم تشكيل مجسّمات أخرى بسرعة أكبر حيث اكتملت طباعة أشياء بطول 50 سنتيمتر خلال ساعة واحدة فقط.
ومع ذلك، لا تتعلّق العملية بمسألة تغيير طريقة صناعة المجسّم من الأعلى إلى الأسفل فقط. فبداية، لكي تتمكن الأشعّة الفوق بنفسجية من معالجة أبعاد الشكل المطلوب، لابدّ لها من أن توجَّه عبر نافذة تتواجد بقعر الوعاء الذي يحتوي على السائل البوليمري، كما يجب أن تكون هذه النافذة منفذة للأوكسيجين، ممّا يسمح بتدفّق الغاز بين المنطقة الواقعة بين النافدة والمنطقة التي تجري بها عملية المعالجة، حيث يحُول الأكسيجين دون حدوث ظاهرة البلمرة الكيميائية، ممّا يؤثّر على مادّة البلاستيك حيث تتباطؤ عملية معالجته وطبعه، وهو الأمر الذي يُحدث منطقة عازلة، أطلق عليها المتخصّصون إسم ”المنطقة الميّتة” . من خلال هذه الطريقة يمكن الحؤول دون التصاق السائل البوليمري المعالَج بقعر الوعاء، ممّا يمكّنه من التشكّل بشكل صحيح فوق ”المنطقة الميّتة”، حيث تستمر الطّابعة في إظهار أجزاء الشكل تدريجياّ وبشكل مستمر إلى أن يصير الشكل مكتملا.
صمّم الدكتور ”ديسيمون” ورفاقه نموذجا حيّا لطابعة رقمية جديدة، وقد دعواْ شركة” كربن ثري دي” (Carbon3D) لتسويق مشروع عملية إنتاج ”السائل السّطحي المستمر” للطابعات الثلاية الأبعاد الجديدة، ليس باعتبارها، في الوقت الراهن، منافسة لطابعات المعادن التي تَستخدم تقنيات الليزر أو الإشعاع الإلكتروني، وهي التقنيات التي يتم اسخدامها عبر العديد من شركات الملاحة الفضائية عبر العالم، أخذا بالإعتبار أنه يمكن لتقنية ”إنتاج السائل السطحي المستمر” للطابعات الثلاية الأبعاد من أن تذر أرباح طائلة في سوق صناعة البلاستيك، حيث يعتقد الباحثون أنها ستكون فعّالة بشكل كبير، لاسيما في مجال صناعة المجسّمات المرنة و اللينة، كما أنه يمكن تطويرها للتعامل مع مادّة السيراميك، بالإضافة إلى امكانية استخدامها لصناعة الأجهزة الطبيّة، حيث يمكنها مستقبلا طباعة الأنسجة البيولوجية عندما يتطلّب الأمر زراعة أحد الأعضاء بجسم مريض ما.
عن مجلة ذي ”إكونمست” البريطانية بتاريخ 17 مارس 2015.