لماذا تقوم الولايات المتحدة بإرسال بعض من أفضل عقولها الشابّة للسجون؟ ”جيرمي هاموند” البالغ من العمر 30 سنة، النّاشط الرقمي المنحدر من شيكاغو والذي كلّفته مشاركته في أكبر إختراق رقمي لعام 2011 ، سنوات طويلة في السجن، حيث تمّ استهدف البيانات الأمنية الخاصة لمؤسسة ”ستراتفور”. ”إنّني أؤمن بقوّة الحقيقة ” هكذا قال جيرمي وهو يقرّ بمشاركته في المساعدة في نشر ملايين الرسائل الرقمية الخاصة بالشركة، وقد تم الإيقاع به ضمن العملية التي تموّلها كبريات الشركات العالمية للتجسّس على المخترقين الرقميّين ”الهاكرز” في جميع أنحاء العالم. أضاف جيرمي :” لقد فعلت هذا إيمانا منّي أنّ من حق النّاس أن تعلم ماتفعله الحكومات والشركات الكبرى خلف الأبواب الموصدة ،فقد قمت بما أعتقدت أنّه هو الصواب”.
ومثل الآخرين الذي اشتركوا في اختراق شركة ”ستراتفور” لم يقم ”جيرمي” بفعل ذلك من أجل المال، فهو لم يتقاضى أياّ منه بتاتا، بل قضى في مقابل ذلك 18 شهرا في السجن، بما فيها مدّة طويلة في الحبس الإنفرادي قبل أن يواجه حكما طويل الأمد. لقد كان ”جيرمي” هدفا رئيساّ لمنظّمة ”ويتشهانت” العالمية والتي تعمل على صدّ المخترقين و المتسلّلين الرقميين الذين يسعون إلى تسريب معلومات سريّة تثير الرّأي العام العالمي.
تعود الآن إدارة ”الويتشهانت” إلى حكومة الولايات المتحدة، ولكنّ أهدافها تأخدا بعدا دولياّ. لقد تمّ قبل ذلك اعتقال ”لوري لوف”، وهو ناشط رقمي ابريطاني، في انجلترا، والذي قد يتم تسليمه للأمريكيين من قبل الحكومة البريطانية، نظرا لتورّطه في اختراق شبكات حكومية أمريكية، ممّا قد يعرّضه للمكوث لعقد في أحد السجون الأمريكية. إنّ التشريعات المستخدمة في الولايات المتحدّة ترسل هؤلاء الناس إلى السجن بسبب الإحتيال وسوء التصرف بالحاسوب، اعتمادا على قانون مرن، يخوّل لمحاكم الولايات المتحدة فرض عقوبات قد تبدو غير محدّدة، ضد أية جريمة حاسوب ترتكب، وصولا إلى انتهاك أبسط شروط الخدمات الرقمية.
عمليّا ومن طبعا ليس بمحض الصّدفة، فالجرائم الرقمية التي يتم الإدّعاء عليها ومتباعتها قانونيّا هي تلك الجرائم التي تجعل الحكومات وكبريات الشركات تبدو خرقاء أمام الرأي العام العالمي. ويستند الإدّعاء العام أساسا على الضرر المالي الذي ألحقه ”هاموند” وزملائه أعضاء ”لوزسيك” بشركة ”ستراتفور”، ولكنه في حقيقة الأمر هناك أكثر من ذلك، فقد يُطلب من ”هاموند” تسديد غرامة تقدّر بـ250.000 دولار فقط، وعلى سبيل المقارنة، فقد يتم الحكم بنفس العقوبة على جريمة اختلاس عشرات الملايين من الدولارات وتهم الفساد التجاري بنفس القاعة بمحكمة منهاتن.
كل ما في المسألة هو أنّ هناك أناسا يتوفّرون على مهارات رقمية جد متطورة، يستخدمونها للكشف عن حقائق غير مريحة. بما فيها المشاركة المزعومة لشركة ”ستراتفور” في عملية التجسّس على احتجاجات حركة ”إحتلّو وول ستريت”، فقد قال ”هاني فاخوري” وهو كبير محامي مؤسسة ”الحدود الإلكترونية” : يجب على العقاب أن يكون مناسبا للضرر الناجم،و إن إنزال مثل هذه العقوبات هو أمر جدّ قاسي.
الآن ومع التوفّر على المهارة المناسبة، ماعليك سوى الإختباء في أحد مواقف السيّارات بأحد المباني بعواصمة عالمية ما، لتسريب معلومات سريّة. لم يعد عليك اقتحام مبنى وسرقة مستندات خاصّة قد تكون نافعة للصالح العام. كل ماعليك فعله هو الجلوس على حاسوبك النقال والعمل. ولكن مخاطرالقيام بعملية نشر غسيل السلطة القذر قد دفعت بالحكومة إلى العمل على التقليص من فئة كبيرة من جيل نما وسط ضجر و ونفور من الحكومة، مما يتطلب بوضوح الإتيان بشيء لإخافتهم وردعهم بشكل سريع وفعّال.
صُمّمت ”الويتشهانت” لردع ومكافحة المخترقين و المتسللين الذين لهم نيّة في فضح و تسريب المعلومات السرية، وهي بمثابة تهديد محتمل لفقدان الحريات و الأموال. من الواضح أن العقوبات العنيفة التي تطبّق على هؤلاء الناشطين الرقميين لاتتناسب مقارنة مع العمل الذي قامو باقترافه، ممّا يوحي بأن هناك خطب ما، تحرص الولايات المتحدة و الدول المرتبطة بها على ردعه وإيقافه بكل ما أمكن، فيما تكمن المشكلة أن هذا الردع يرجّح بأن يأتي بنتائج عكسية بشكل كبير
هناك قاسم مشترك واحد يجمع بين كل المخترقين والمسربين المطارَدين من طرف الحكومة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، انطلاقا من ” تشيلسي مانين” مرورا بـ”إدوارد سنودن”، وصانع المقالب الهزلية الشهير”أندرو أويرنهايمر”، وهو أنهم لايظهرون سوى القليل من الإحترام للسلطة المعنوية للولايات المتحدة وآلياتها. كما أنهم فتيان يافعين في سنّ المراهقة أو العشرينيات، نشأوا في سنوات حكم بوش وبلير وبراون وكبروا شاهدين على انهيار النظام المالي لسنة 2008، جارفا معه أسس البنية الإقتصادية لمجتمع الإمبريالية الأنجلو-أمريكية المتوسّطة. ومما لاشك فيه هو أن ثقافة الأنترنت ساعدت في خلق نوع من الشفافية إلى حدّ كبير، كما يعتقد كثيرون، وبالإستناد على هذه الثقافة، فهؤلاء النشطاء الرقميين الذين يجازفون بكل شيء لصالح الرأي العام تحت شعار ”الحق في المعرفة” هم أبطال حقيقيون.
إنّ ”جيرمي هاموند” ليس هو أوّل ناشط معلوماتي تضحّي به حكومة الولايات المتحدة، وليس من المرجح أن يكون هو الأخير.فهناك الكثير من الأشياء قد تقوم بها لتخويف الأفراد إن كنت أقوى دولة على وجه الأرض، يمكنك تدمير فرصهم في الحصول على مستقبل آمن وسعيد ، بإمكانك حتّى حبسهم لسنوات طويلة، ولكن الشيء الوحيد الذي لا يمكنك القيام به أكثر من أيّ وقت مضى، هو إجبارهم على احترامك، وإن لم تستطع القيام بذلك فستكون قد فشلت فشلا ذريعا.
عن الغارديان البريطانية